تجمّع العشرات من المواطنين أمام منزل عائلة “بيّاض” القبور ليس لتكريمه أو لتشجيعه على عمله الإنساني والاجتماعي بل لتعزية أفراد عائلته على فقدانه ومواساتهم وسط حالة من الحزن الشديد والاكتئاب العميق، حيث راح ولم يعد إلى الأبد تاركا المأساة والمعاناة.
تحوّل منزل صالح العيساوي أو كما يسمّونه أبناء بوحجلة “نبيل” إلى مكان للتعزية بعد فقدانه في عرض بحر الشابة من ولاية المهدية فحين لا يزال قبره وسط مدينة أرض الجلاص ينتظره ليأويه،ذلك القبر الذي يتوسّط القبور التي قام نبيل بتبيضهم قبل وفاته

يمتهن نبيل العيساوي طلاء القبور باللون الأبيض في المناسبات الدينية والأعياد الوطنية وكذلك إثر وفاة أحد أقاربه أو جيرانه،و ذات عدل عن ذلك قرّر المشاركة في الهجرة غير النظامية نحو أوروبا ضمن مجموعة من أبناء جهته حالما بتحسين وضعيته الاجتماعية ليتمكن من شراء منزل يلوج إليه رفقة زوجته وابنيه الإثنين.
نبيل عمره 44 سنة و أب لطفلين الأول طفلة عمرها 11 عاما والثاني طفل رضيع عمه 11 شهرا ونتيجة ظروفه الاجتماعية القاسية باعت عائلته غرفة النوم واقترضت من الجيران مبلغا ماليا لتوفير تكاليف الهجرة غير النظامية حيث ترك أدوات ولوازم التبييض وسط المقبرة ليركب المركب القديم مع أكثر من خمسة و ثلاثين نفرا في رحلة محفوفة بالمخاطر وشرعوا يصارعون الأمواج كانوا ينوون الوصول إلى أوروبا حالمين بتحقيق آمالهم وتحسين ظروفهم الاجتماعية بعد أن نفرهم الوطن الا أن الأقدار حالت دون أحلامهم.
غرق المركب الذي انطلق من صفاقس بسواحل الشابة بعد تسرّب المياه بداخله رغم محاولة نبيل جهر المياه في عدّة مناسبات الا أن الأمواج انتصرت على مجهوداته مثلما سيطرت على آمال المهاجرين فرفعوا رؤوسهم إلى السماء طالبين النجاة لعلها تنقذهم من قاع البحار،فتبعثرت أحلام جميع المهاجرين وصارت حالة من الفوضى العارمة إلى حين تدخلت وحدات الحرس الوطني وتم إنتشال 12 جثة وانقاذ 14 شخصا ولا يزال نبيل ورفاقه مفقودين.
تعيش معتمدية بوحجلة في حالة حداد ونصبت الخيام ووضعت الكراسي أمام منازل المتوفين والمفقودين الذين هزمتهم أمواج البحر لقبول العزاء بعد فقدان و غرق 9 من أبنائها رغم نجاة اثنين منهم وانتشال جثتين آخرين حيث لا يزال نبيل و 4 آخرون في عداد المفقودين.
ندّد أهل و أقارب المفقودين بغياب المسؤولين وعدم مواساتهم معبّرين عن استيائهم من طول فترة انتظار انتشال الجثث ، مطالبين بضرورة كشف الحقيقة الكاملة ومحاسبة كل المتورطين في تنظيم وتسهيل الهجرة غير النظامية وفتح تحقيق جدّي حول ملابسات الفاجعة.
كما عبّر أقارب المفقودين والمتوفين عن استيائهم من عدم محاسبة العصابات التي تقوم بتجارة البشر مستغلين هشاشة الوضع الأمني بالبلاد لتنظم رحلات “الموت” دون احترام أبسط حقوق الإنسان وتنتهج سياسة الافلات من العقاب وعدم محاسبة مرتكبي هذه الجرائم التي لوّعت عدّة عائلات ببوحجلة وعدم فتح محضر بحث حقيقي وجدّي لتقديم المتورطين للعدالة و انصاف الضحايا وعائلتهم
تشهد معتمدية بوحجلة حالة من الغليان في صفوف المواطنين معتبرين أن ما آلت إليه الأمور أفضت إلى انسداد الأفق لدى العائلات ما يدفعهم أحيانا إلى دفع أبنائهم إلى المحرقة والمشاركة في الهجرة غير النظامية رغم معرفتهم بالمخاطر والماسي التي تحوم حولها وهي ممارسات تعبر عن إحباط ويأس من الواقع المرير.
وتتطلب الظرفية الحالية تدخلا عاجلا من أجل إيجاد الحلول الاجتماعية والاقتصادية لمعتمدية بوحجلة التي تعتبر من أكبر المعتمديات حيث تضم أكثر من 120 ألف نسمة وتفتقر إلى التنمية وتشكو من غياب المرافق الضرورية للحياة وتغيب فيها أبسط مقومات العيش في ظل إرتفاع نسبة البطالة والفقر حيث وصل أبنائها إلى مرحلة اليأس.
*خليفة القاسمي