تواجه تونس منذ سنوات مشاكل بيئية معقدة ناجمة عن التغيرات المناخية. حيث سرعت البنية التحتية الهشة لمنظومة المياه بحدة التأثيرات التي خلفها الجفاف وتراجع الموارد المائية مما وضع سكان المناطق الريفية خصوصا منطقة زغدود بجبل الوسلاية، وجها لوجه مع حميرهم في مجابهة مصاعب الحصول على مياه الشرب من العين وهي موردهم المائي الوحيد منذ قرون.
قرية زغدود الواقعة في ولاية القيروان (معتمدية الوسلاتية) فرض وجود العين في منحدر جبل عين الكاف الشهيرة، أمام غياب شبكة لمياه الشرب في المنازل، على الأهالي استخدام الحمير والبغال لنقل المياه من المرتفعات والنزول بها في اتجاه المنحدرات والمسالك الملتوية والأودية وغابات كروم التين الشوكي والصبار والصنوبر.
تمنع هناك المسالك الوعرة وصول الشاحنات والدراجات لحمل الاوعية، ما يجعل مهمة جلب ماء الشرب من العين مهمة عسيرة وشاقة أمام الصغار والكبار، بينما توحي قوافل الوافدين على العين من مختلف المناطق الريفية المجاورة على ظهور الحمير والبغال، بأن تلك المنطقة النائية تعيش خارج سياق التاريخ وأن العام 2022 لم يحمل معه أية حقوق دستورية ولا جودة حياة ولا رفاه كأنهم خارج جغرافية وطن يضمن الحق في الماء كحق دستوري.
تتقاسم العائلة الأدوار في جلب الماء، غالبا ما ترسل الأمهات أبنائهن إلى العين لجلب الماء. بينهم أطفال لم يتجاوزوا الرابعة عشر، يتكبدون تعب ملء الحوايات ووضعها على ظهور الحمير. وتدور أحيانا بين هؤلاء الصبية أو بينهم وبين الكبار خصومات حول ملء الماء من ماء العين المتدفق على مهل، لتتحول مهمتهم إلى عمل شاق يزيد شقاءها فرار الحمير أو وعورة السير بالمرتفعات.
في العادة يتم نقل المياه بواسطة حاويات سعة كل منها 20 لترا. في كل سفرة توضع بتوازن مثنى ورباع على جانبي ظهر الحمار ويشدان بالحبال وهي مهمة يقوم بها الاطفال بمفردهم بعد ان اتقنوا هذا الدورة وحصلت اجسادهم النحيلة على قوة وصلابة من التعود.
العين المقدسة
يقدر عدد سكان قرية زغدود بنحو خمسة آلاف ساكن، وهذه العين التي تجري منذ قرون، كما يروي كبار القرية، هي موردهم الوحيد لشرب الماء أو الغسيل. يأتي الناس أفواجا لجلب الماء على الدواب من مناطق مجاورة تعاني من شح المياه بدورها ويبعد أقربها مسافة نحو عشر كيلومترات، وتكون العودة أحيانا على الأقدام بسبب ثقل الحمولة على الحمير ورأفة بها لان الحمار هو اغلى ما يملك الاهالي.

تعتبر الحمير في هذه المنطقة الريفية الوعرة وسيلة تنقل لا يضاهيها شيء آخر في هذه القرية المنعزلة والمسالك الوعرة. وقد يصل سعر الحمار الواحد إلى ألف دينار بينما يبلغ ثمن الحمار الصغير (الجحش) 300 دينار وذلك نتيجة تزايد الإقبال المتزايد على هذا الحيوان الذي يقاوم عناء السفر لجلب الماء ومآرب أخرى في أنشطة الغابة.
ويعتمد أهالي قرية زغدود في الحصول على الماء على عين الكاف الجبلية التي يتدفق منها الماء من ماسورة معدنية باتجاه حوض اسمنتي ضيق بات مليئا بالأوحال بسبب اختلاط الماء بالتربة ونتيجة توافد الأهالي بحميرهم وبغالهم بذلك المكان مما يؤدي إلى تلوث الحوض وتعكر مياه العين الجبلية.
تجتمع النساء بشكل كبير في الصباح قرب العين ويجلب بعضهن أمتعة لغسلها قرب العين لتجنب متاعب التنقل، بينما تجلب أخريات صوف الخرفان لغسله فتتحول العين إلى ميدان للغسيل تتخلله بعض خصومات النسوة تارة وحلقات ثرثرة تارة أخرى حول أوضاع القرية التي يرتفع فيها الفقر والهجرة وتعقد فيها بعض الاعمال والزيجات واحاديث السياسة ومشاكل الحصول على المواد الاساسية وتغيب الطبيب عن مستوصف القرية وغياب النقل الجماعي ومشاكل دراسة الابناء.







يتناقل أهالي قرية زغدود فيما بينهم أساطير عن جدهم الأول “زغدود” الذي يعتبرونه وليا صالحا تفجرت من تحت قدميه تلك العين المقدسة بفضل كراماته بحسب رواياتهم. ولذلك أقاموا له ضريحا تقام فيه الولائم وحفلات الختان وشيدوا بجواره مسجدا لا تقام فيه الصلوات لانه لا يزال بلا ماء حنفيات شأنه شأن المدرسة الوحيدة في تلك الربوع الامر الذي تسبب في ظهور حالات مرضية كثيرة واصابات بمرض الالتهاب الفيروسي الكبدي كشفته فرق الصحة التي قامت بالتحاليل.
لكن شباب تلك المنطقة سرعان ما يتجاهلون نشوة الأسطورة عندما يضطر بعضهم لجلب كميات كبيرة من الماء بطرق بدائية إذا تعلق الأمر بحفل زفاف أو بناء مسكن، في وقت تعاني فيه منطقتهم من غياب شبكات توزيع المياه الحكومية رغم المطالب المتكررة منذ عقود طويلة والوعود بحفر بئر مثل بئر معمل المياه المعدنية القيرب منهم بمنطقة قصر اللمسة
موسم العطش
بالرغم من أن ولاية القيروان كانت منطقة غنية بموائدها المائية وسدودها وتزود حتى ولايات كبرى مجاورة مثل صفاقس والمهدية وسوسة والمنستير، إلا أن معضلة نقص الأمطار وانخفاض منسوب السدود وغلقها جعل مخزونها المائي يتراجع وجعل عديد مناطقها تشكو من الجفاف وانقطاع المياه ووضع الاف المواطنين بعديد القرى امام معضلة العطش وعدم توفر الحق في الماء ناهيك عن مشاكل الجمعيات المائية. ورغم خطب الجهات الرسمية عن مصانع المياه المعندية والجمعيات المائية الا ان المعضلة ازدادت تعقيدا.

ويجلب فصل الصيف المرتقب المخاوف إلى سكان عديد المناطق الريفية في ولاية القيروان من عودة الجفاف والعطش. ويفضي نقص الماء وانقطاعه سنويا إلى احتجاجات وغلق طريق ونداءات استغاثة تنتهي بالتدخل الأمني والسجن في حين تخير مناطق أخرى المعاناة في صمت.
وتتمثل خطة السلط المحلية لمكافحة العطش بتوفير خزانات ماء مجرورة يتم اكتراؤها لتزويد التجمعات السكانية. .وهذه عملية ليست منتظمة ولا تصل إلى جميع القرى مثل قرية زغدود أو قرية وادي القصب وقرى أخرى كثيرة
من جهة ثانية، يخيم الخوف من تنامي حالة الجفاف وتضاعف مخاطر التغيرات المناخية وتاثيرها على الحياة امام ندرة المياه وتراجع المحتصيل الزراعية الامر الذي اثر على حياة الاهالي بالمناطق الريفية خصوصا على الضيعات الفلاحية التي ترتبط بمصادر مياه لم تعد كافية وامطار شحيحة.
وتسجل مناطق ريفية كثيرة هجرة مكثفة للافراد والعائلات وترك مساكنهم التي خيم عليها شبح العزلة
