
ضحايا الايدز في تونس: بين التعايش مع المرض وكماشة الوصم الاجتماعي

ناجح الزغدودي/
منذ طفولة مبكرة، فقدت براءة الاطفال واستيقظت وسط متاهة محفوفة بالمخاطر من كل جانب. تتربص بها أعين المتربصين وعندما لجأت الى ملاذ اعتبرته آمنا تعرضت الى الغدر ووجدت نفسها ضحية من جديد لكن هذه المرة جعلها عرضة للوصم والتنمر والتمييز بل والحرمان من الحق في العلاج، بسبب جرم لم ترتتكبه ولم يحاسب من ارتكبه في حقها لانها لم تجد سندا اجتماعيا ولا قانونيا ولا حقوقيا فلاذت بالعزلة تحضن مرارة عيشها وتسند نفسها بنفسها.
متوارية خلف نافذة منزل مهجور لجأت اليه هروبا من الوصم والتمييز، تراقب بسمة حركة الناس الذين رفضوها بسبب ذنب لم ترتكبه وانما كانت ضحية زوج اخفى عنها مرضه بالسيدا، مستعيدة شريط حياتها وما فيه من ذكريات بين الشوارع التي كانت مأواها الوحيد. وكأنها تريد اقناعهم بأنها ضحية ولم تقترف أي ذنب يفقدها مناعتها.
اختارت بسمة العزلة في مبنى مهجور بعد أن فرضت عليها جائحة كورونا عزلة قاهرة وظروفا صحية صعبة. اعتزلت الناس بعد أن طردتها عائلتها وهي اقرب الناس اليها بسبب ذنب لم تقترفه وفرض عليها المجتمع “الاختباء القسري” بسبب ما جربته من وصم اجتماعي لاحقها بين الفضاءات العمومية. وفقدت السند العائلي كما فقدت الحقوق الاقتصادية والصحية.
توصلنا الى قصة بسمة من خلال مقابلة سرية عن طريق احدى الجمعيات المرافقة لمرضى فقدان المناعة. أرادت ان تحدث المجتمع الذي رفضها وان ترفع الظلم لتقول للعالم انها إنسانة ومواطنة وأنها ضحية ولا تستأهل تلك الاتهامات الجارحة والوصم الخادش لانسانيتها.
بدأت رحلة معاناة بسمة بوفاة والدتها بالسرطان وهي طفلة يافعة وزواج أبيها ففارقت مقاعد الدراسة وتحملت مسؤولية إخوتها وغرقت وسط الشوارع تجمع قوتها وقوت اخوتها في مجتمع لم يرحم طفولتها وكال لها من الاهانات والعنف والانتهاكات الشيء الكثير وشجعهم غياب اي حماية او ردع على التمادي والامعان في الانتهاك.
“عملت في الأراضي الفلاحية وفي تنظيف المنازل بأبخس الأسعار. وتحملت جميع أنواع الذل والإهانة والضرب من طرف بعض أقاربها الذين حاولوا استغلالها في الأعمال المنزلية” تقول بسمة متحدثة عن بعض التجارب القاسية والمعاناة البدنية والنفسية التي لاقتها من المشغلين الذين كانوا يستغلونها مهنيا في اعمال مرهقة مقابل أجرة غير مناسبة ومحاولات انتهاك حرمتها الجسدية.
“هروبا من أنياب الشارع التي كانت مكشرة في وجهي ويسيل لعابها حول جسدى، وفي سن الرابعة والعشرين اضطررت للزواج من عجوز سبعيني تونسي مقيم في إحدى الدول المجاورة”، تقول بسمة مضيفة أنها كانت تظن أن الزواج، سيحميها من أهوال الشارع ويريح شبابها من رحلة التشرد.
عاشت بسمة بضع سنوات مع زوجها قبل أن تنعرج حياتها الجديدة، وذلك بمرض زوجها الذي لم يطلعها عليه واحتفظ به كسر رغم زواجهما. فقد كان يشكو من شدة الإرهاق وارتفاع الحرارة. وقفت بجانبه تسانده لكنها استغربت من رفضه العلاج في المستشفى كأنه يعلم سبب مرضه ولا يريدها ان تعلم هي.
انهمكت في العمل ورعاية زوجها، لكن أصبحت هي ايضا تنتابها وعكة صحية وعندما اشتد مرضها توجهت الى المستشفى فكانت نتائج الفحوصات مدوية مثل صاعقة لا تحتملها شابة يافعة .
علمت أنني مصابة بالسيدا، لم أصدق حينها وكنت اسأل الطبيب ما يعنيه ذلك ولم استوعب الأمر وغرقت في بحر من الأسئلة والشكوك قبل أن أعلم أنني أصبت بمرض فقدان المناعة وان زوجي الذي وثقت به هو من نقل الي العدوى وأخفى عني ذلك طيلة خمس سنوات منز زواجنا”، تقول بسمة في حزن وهي تستدعي دموعا جفت على مر السنين وحيرة عمقتها الوحدة وغياب سند يقف معها او وجهة تحفظ حقوقوها وتعيد لها اعتبارها الذي انتهك.
علمت بسمة من الأطباء انه عليها ان تتعايش مع المرض الذي سوف يلازمها وفي المقابل قررت الطلاق بعد ان اصبحت حياتها تفتقد الى الثقة مع زوجها علاوة على مشاكل عائلية. وقررت الانسحاب ومواجهة مصيرها بمفردها فعادت الى تونس غير أن قوة عزيمتها في مواجهة المرض وصلابتها تأثرتا أمام الوصم العائلي والمجتمعي وعاشت مطبات نفسية أوصلتها الى محاولات الانتحار.
فعائلتها تنكرت لها وصاروا لا يشربون من نفس الكأس الذي تشرب منه ولا يأكلون من نفس الصحن الذي تأكل منه ويتجنبونها طوال الوقت خوفا من أن تصيبهم العدوى حسب اعتقادهم الخاطئ لان السيدا غير معدية بتلك الطرق. لذلك “خيرت العزلة ومواجهة المرض لانه أقل وطأة من الاهانات التي عشتها”. كما تقول بسمة التي وجدت ايضا من ساعدها.
رعاية صحية منقوصة
أحد الأطباء الذي أعلمها بمرضها عاينها مجانا في عدة مناسبات وقدم لها يد المساعدة ومنحها بعض الأدوية حين كانت في وضعية صحية سيئة جدا وهذا ما أعطاها الأمل في الحياة واستعادت بعض الثقة في محيط ضيق.
في حين وجدت الوصم والملاحقة بالتنمر والاتهام في الوسط الصحي على يد ممرضات مارسن ضدها التجريح في كرامتها والتهكم والتنمر والوصم الى حد دعائهم عليها بالموت حسب قول بسمة التي تتمسك بالقول:
“أنا ضحية ولم أختر المرض وهذا ما يجب ان يعرفه الجميع ولا يحكموا علي دون ما عشته منذ طفولتي”.
بسمة واحدة من الاف النساء اللاتي يتعايشن مع المرض دون معرفتهم لفترة قبل الكشف بواسطة التحاليل.
بلغ عدد المتعايشين مع فيروس نقص المناعة المكتسبة « السيدا » سنة 2020 في تونس حوالي 4500 مصاب، منهم 51 بالمائة فقط يعلمون باصابتهم بهذا المرض، وفق ما كشفه منسق البرنامج الوطني لمكافحة السيدا بإدارة الرعاية الصحية الأساسية بوزارة الصحة، سمير مقراني في تصريح اعلامي.
ويتلقى العلاج الثلاثي المجاني 32 بالمائة فقط من المتعايشين مع فيروس السيدا أي حوالي 1400 حالة منهم 43 طفلا خلال سنة 2020 التي سجلت 198 حالة جديدة منها 7 حالات للأطفال.
ستون المائة تعرضوا للوصم
“الوصم والتمييز مثلا عائقا أمام الاقبال على العلاج في المراكز الاربع المتوفرة بمختلف أنحاء الجمهورية”، يوضح السيد مقراني مذكرا بدراسة أعدتها منظمة الامم المتحدة للطفولة « اليونيسيف » سنة 2018 أظهرت أن أكثر من 60 بالمائة من المستجوبين أبلغوا عن تعرضهم لحالات تمييزية في محيطهم بسبب اصابتهم بالفيروس.
وقال إن “تونس تهدف بحلول سنة 2025 الى الحد من الاصابات الجديدة بنسبة 50 بالمائة وتقليص الوفايات بـ 70 بالمائة وانهاء الوصم والتمييز وتعزيز المكاسب في مجال حقوق الانسان وتطويرها للفئات الهشة والتقصي بصفة واسعة ومزيد التحسيس والوصول الى خدمات العلاج الشام “.
وفي ما يتعلق بالميزانية المخصصة لمكافحة السيدا في سنة 2021، أفاد المقراني، لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، أن قيمتها تبلغ 3,6 مليون دينار وهي موجهة في مجملها للأدوية والكواشف وغيرها من المستلزمات العلاجية، إضافة الى دعم البرنامج الوطني لمكافحة السيدا عبر تمويلات أجنبية أخرى لترتفع القيمة الجملية الى 5,5 مليون دينار هذه السنة.
ومن ناحيته، أضاف مدير مكتب تونس لبرنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة السيدا، لسعد صوه، في تصريح لوكالة تونس افريقيا للانباء، أن الوضع المتعلق بالسيدا في شمال افريقيا والشرق الاوسط يسجل تناميا ملحوظ للمرض بسبب الوصم والتمييز.
رغم ما عاشته بسمة، ورغم الالم الذي وصلها من المجتمع، لم يفتها ان تقدم النصائح بشأن ضروري التوقي من مرض فقدان المناعة بالحذر من العدوى وضرورة القيام بالفحوصات وأيضا ضرورة الحصول على معلومات دقيقة حول المرض.
بسمة، لم يفقدها المرض التفاؤل والأمل بفضل صلابتها في مواجهة المواقف الصعبة وتجارب حياتها وما تزال تحلم بمسكن صغير مليء بالورود وسيارة تسافر بها وتكون مصدر قوتها وليس لديها شك في ان حلمها سيتحقق.
قد يعجبك أيضا

يوم مفتوح للتقصي المبكر لسرطان الثدي
1 أكتوبر 2022
من توزر: إصلاح قطاع النهوض الاجتماعي في تونس
22 فبراير 2022