الشباب والهجرة في ولاية القيروان:رحلة البحث عن الذات بين المخاطر… ماذا تبقى من حلم الثورة؟
دراسة اجتماعية من اعداد الباحث ناجح الزغدودي /تحت اشراف الاستاذ رضا عبد مولاه
الهجــرة غيــر النظاميــة، أو “الحرقة” مــن التعابـيـر التــي تــم تداولهــا بشــكل كبــير عــى الســاحة التونســية وتحولـت الى هاجـس جماعي، شـغل المجتمع السياسي والمجتمع المدني والباحثين في علم الاجتماع وتشــغل الــرأي العــام في تونــس وبشـكل خـاص بعـد الثـورة. وقـد أصبحـت كما يقول الباحث عبد الستار السحباني عنوانـا بـارزا لجـزء هـام مـن الحـراك الاجتماعي الـذي تقـوده خاصة عائلات ضحايا الهجرة غير النظامية أو ما يسمى شعبيا بالحرقة.
ويصف السحباني الحرقة بأنها ” فعـل رمـزي يقـوم عـلى قيام المهاجـر غيـر النظامـي بإحـراق وثائـق هويتـه اإلاداريـة، قصد التخلـص مـن العوائـق الادارية التـي تحـول دون قدرتـه عـلى الهجـرة والانخـراط في مغامـرة ليست مضمونة النتائج.
منذ الثورة التي شهدت بداية ربيعها، موجة هجرة غير نظامية واسعة، تحولت “الحرقة” عاما بعد عام الى هستريا جماعية لدى فئة الشباب التي تبنت جملة من التمثلات حول فعل الهجرة ومغادرة البلاد بحثا عن امل مفقود وشكلا من أشكال الاحتجاج على الوضع القاسم. ما يستدي يستدعي البحث في الرابط بين انتظارات الشباب من ثورة ارادها وهروبه منها في الوقت نفسه. .
وفي نفس الوقت اصبحت هاجسا يؤرق العائلات وهي تخشى على انخراط ابنائها بمن فيهم الاطفال في سن المدرسة من الانخراط فيها كأنها قدر يناديهم.
فما هي تمثلات الشباب للهجرة غير النظامية وماهي الدوافع والاسباب المباشرة لاتخاذ قرار الحرقة وكيف يتشكل فعل الهجرة في أذهانهم وكيف يخططون لتحقيقه.
وفي المقابل يطرح السؤال على دور السياسات التنموية والمؤسسات الحكومية في دعم اتخاذ القرار او الحد منه سواء بتنظيم الهجرة او الغاء العوامل المؤثرة فيها.
سنقدم في هذا العرض جملة من المعطيات الاحصائية عن تطور الهجرة غير النظامية في تونس بعد الثورة.
واستقراء لتمثلات الشباب حول الحرقة وكيف يتم اتخاذ قرار الهجرة .
كما نستعرض جملة من الاطر النظرية منها الوظيفية والسلوكية وكيفية تفسير ظاهرة هجرة الشباب.
عرّف ماكس فيبر علم الاجتماع بأنه، العلم الذي يريد الوصول إلى معرفة تفسيرية للفعل الاجتماعي، من أجل التوصل إلى تفسير علمي لهذا الفعل وأثاره.
والفعل الاجتماعي حسب فيبر، والذي يجب أن يكون موضوع دراسة علم الاجتماع، هو أي سلوك إنساني، يضفي عليه الفاعل مفهوماً ذاتياً.
.وقرار الهجرة او الحرقة بناء على ذلك هو فعل اجتماعي مدفوع بقصد وغاية وله ابعاد ذاتيه ويمكن ان يكون ردة فعل تجاه الاخرين.
ارتفاع مؤشرات الهجرة غير النظامية
رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين غير النظاميين بين جويلية 2021 والشهر ذاته من العام 2022، إذ بلغ عدد الواصلين إلى أوروبا عبر مختلف الطرق أكثر من 20 ألف تونسي.
وأصبحت الجنسية التونسية تحتل المرتبة الأولى في الواصلين إلى إيطاليا بنسبة 18% بعدما كانت في المرتبة الثالثة في النصف الأول من السنة الحالية، وقُدّر عدد القُصّر التونسيين الواصلين إلى إيطاليا بـ1242 وعدد الأسر الواصلة بـ300 منذ بداية 2022 الى غاية حويلية 2022
كما اتسعت دائرة الهجرة جغرافيا، فالى جانب المناطق التقليدية التي تشهد موجة هجرة غير نظامية تاريخيّا، مثل مدينة جرجيس، أصبحت أغلب مناطق الجمهورية شمالا وجنوبا تصدر أبناءها للحرقة خصوصا الشباب المقيمين بالاحياء الشعبية والمناطق ذات الكثافة السكانية المتاخمة للمدن.
ويصف المتخصص في علم الاجتماع سامي نصر ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس “بالطوفان الاجتماعي الذي يجرف كل شيء، ولا توقفه البلاغات الرسمية أو التحذيرات ولا صور المهاجرين الموتى والغرقى.
ويؤكد ان هذا الطوفان أصبح يشمل الكهول والأطفال والفتيات والحوامل وأسرًا بأكملها والمتعلّم وغير المتعلم، فغدا من الظواهر ذات الحجم الثقيل.
تمثلات الشباب للهجرة
ولاية القيروان، شهدت منذ سنوات خصوصا بعد الثورة عمليات هجرة غير نظامية بشكل جماعي لافراد من الشبان والكهول والاطفال ومن قبل عائلات نووية وموسعة
من خلال مقابلات مع عدد من الاطفال والشبان في ولاية القيروان حول تمثلاتهم للهجرة وللهجرة غير النظامية تكررت جملة من المفاهيم المتصلة بتمثلات الهجرة مثل “العيش الكريم” والفقر” و”الحرمان من مرافق الحياة” و”غياب مواطن الشغل” و”غياب الدولة في توفير اساسيات الحياة” ومفاهيم “انسداد الافق بعد الدراسة” والعزلة خصوصا بالارياف وكذلك يبرز مفهوم التأثر بما حققه الاصدقاء والاقارب بعد وصولهم الى اوروبا وعدم نجاح المشاريع. وايضا مفاهيم “القدر او الكرامة”.
ما يجعل القاسم المشترك بين الشباب في نظرتهم لاسباب الحرقة ذات ابعاد تنموية متصلة بسياسة الدولة في معالجة القضايا الاجتماعية الحارقة.
علما وان ولاية القيروان تسجل مؤشرات متدنية في التشغيل والتعليم والتنمية والتكوين المهني مقابل مؤشرات سلبية عالية في البطالة والفقر والفقر المدقع والانقطاع المبكر والامية وغياب فرص الشغل وبعث المؤسسات خصوصا بالمناطق الداخلية تجعلها جهة طاردة
وتعبر حالة فقدان الامل عن شعور بالاحباط وفقدان الثقة في الدولة ومدى قدرتها على تحقيق انتظارات الشباب في الحاضر والمستقبل وتراجع دورها في الرعاية الاجتماعية من جهة، وتمرد الشباب على الضوابط الاجتماعية التي فقدت صلابتها بفعل عجزها عن تحقيق توقعات الشباب وسقوطه في اللامعيارية والتفكك الاجتماعي، وعدم القدرة على التاقلم والاندماج الاجتماعي في ظل التقلبات السياسية وما تشهده البلاد من أزمات سياسية واقتصادية.
هذه التمثلات تعبر أيضا عن خيبــة أمل كبيرة من نتائج الثورة على خلاف التوقعات من ان تجد المشاكل الاجتماعية طريقها الى الحل وامام بيان زيف الوعود الانتخابية المغرية كما ورد في دراسة استطلاعية للمنتدى التونسي تحت اشراف الاستاذ عبد الستار السحباني.
كما ان انسداد افق الهجرة النظامية امام عدد كبير من الشباب من ابناء العائلات الفقيرة والمتوسطة من جهة، مقارنة بغيرهم من ابناء العائلات الميسورة التي يمكنهم السفر بشكل قانوني، وكذلك عدم قدرة الشبان الذين لا تتوفر لديها شهادات علمية او تقنية او مهارات تخول لهم الهجرة المنظمة مثل التخصصات المطلوبة في قطاعات الصحة، فيلجؤون الى ركوب المخاطر التي يدفعون في سبيلها مبالغ باهضة كما ورد في تصريحات المبحوثين.
الهجرة مهما كان الثمن
باهضة من ناحية قيمة المبالغ التي تبدأ من 6 الاف دينار وتصل الى 10 الاف دينار وايضا من ناحية سبل الحصول عليها. فقد صرح بعض الشبان انها تتكلف احيانا ارتكاب جرائم مثل السرقة او البراكاج او تصل بالعائلة الى بيع المواشي او المصوغ او قطعة ارض لتلبية طلب ابنها في الحرقة والذي يكون احيانا تحت التهديد في مقابل وعود واحلام تعد بها الهجرة في اذهان وعواطف الشبان.
من جهة ثانية، اصبحت الهجرة غير النظامية ممكنة ومتاحة، رغم المجازفة والمخاطرة، أمام تغاضي الجهات الرسمية عن مجموعات الحراقة واحيانا غض الطرف عن العائلات التي تقوم بشراء مركب وتنفذ عملية حرقة جماعية واحيانا أخرة مبادرة عائلات الى دفع ابنائها نحو الهجرة بالتشجيع والتمويل رغبة في تحسين وضعها المادي ورأس مالها الاجتماعي والرمزي خصوصا امام الجيران او الاقارب الذين سبق لهم تجربة الهجرة وتحسنت احوالهم
كما اصبحت الهجرة غير النظامية نفسها تتخذ اشكالا متعددة ولم تعد فقط باتجاه ايطاليا ولا عبر القوارب البحرية، وانما تنوعت الوجهات بين تركيا وصربيا بواسطة رحلات جوية.
النظريات المفسرة للهجرة غير الشرعية:
مع تعقد ظاهرة الهجرة وتعدد أنواعها خاصة فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، اصبحت دراستها اكاديميا وعلما، مطلبا ملحا يستدعي تدخل جميع التخصصات العلمية واستدعاء بارديغمات سوسيولوجية لتفسيرها قصد الفهم واقتراح الحلول.

النظرية البنائية الوظيفية
تعتبر الهجرة غير الشرعية من منطلق الوظيفية سلوكا يخالف القواعد والأنماط
السلوكية المتعارف عليها في المجتمع.
وتفسر تصاعد المشكلات الاجتماعية بفشل الجماعة في القيام بوظائفها أو أن الأدوار ليست في حالة اتساق وتجانس مع تطورات التنظيم الاجتماعي ما يؤدي بالفرد إلى البحث عن بيئة ومحيط لإثبات ذته والاستقرار حتى وإن كان ذلك بطرق غير شرعية
فاللامعيارية الموجودة في المجتمع أدت بالأفراد إلى فقد أهداف يحاولون الوصول اليها وتحقيقها في مجتمعاتهم او انعدام قابليتهم للتنبؤ بالمستقبل وخوفهم منه لانه بقي مستقبلا محمولا في اذهانهم..
كما ان غياب التضامن بين الافراد وعدم اهتمام القادة بحاجيات الافراد ادى بالشباب الى التفكير في الهجرة.
ويعتبر”دوركايم” الظواهر الاجتماعية لها من السلطة ما يجعلها قاهرة وملزمة
للأفراد، وبالتالي الهجرة غير الشرعية كرد فعل يعكسونه في تصرفاتهم وهناك قوة
جماعية تدفع بالأفراد إلى سلك طريق الهجرة غير الشرعية
2- التفسير السيكولوجي
إن الفكرة العامة لنظرية الحاجات التي طرحها أبراهام هارولد ماسلو السيكولوجية للأفراد قائمة على مجموعة من الحاجات الأساسية المرتبة بشكل
هرمي، يؤدي إشباع المستوى القاعدي الأول منها إلى الانتقال إلى المستوى الأعلى
منها وهكذا.
إذا بدأنا بالفرع الأول من الحاجات الفيزيولوجية، فهي تشير إلى الحاجات
الأساسية التي يتوقف عليها البقاء الفيزيولوجي، والهجرة غير الشرعية وفق هذا
المستوى حسب ماسلو، الدافع وراءها هو الفقر الحاد في الحاجات الفيزيولوجية الناجمة عن الحروب والمجاعات.
وعندما تشتد مثل هذه الحاجات يصبح الفرد مركز بشكل مفرط على إشباع هذه الحاجات دون الانتباه إلى المخاطر المرافقة لها. ويرتبط بهذا المستوى من الحاجات نوع آخر وهو حاجات السلامة والأمن والتي تتضمن الحاجة للاستقرار والقانون والتحرر من الخوف والقوى المهددة، لكن في بعض الأحيان
تعترض الأفراد عقبات مقوضة لفرصهم في البحث عن الأمن، لكن تفهم وتفسر بناءا على فهم بإدراك الأفراد لها، فعلى الرغم من الآثار الجانبية للخوف التي ترافق عملية البحث عن الأمن إلا أن هناك أمل قوي لتحقيق الأمن الدائم والاستقرار الطويل،
وهذا الشعور هو الدافع وراء سلوك الهجرة غير الشرعية التي يغامر فيها الأفراد بحياتهم من أجل تأمين فرص العيش والحياة الكريمة والانتقال إلى مجتمعات أخرى تكون أكثر أمنا في نظرهم
أما عن المستوى الرابع من ترتيب ” ماسلو” للحاجات وهو “حاجة تقدير الذات” والذي يشمل احترام الذات وتلقي الاحترام من الآخرين فإشباع حاجات
تقدير الذات يولد مشاعر واتجاهات الثقة في النفس وإحباط هذه الحاجات يؤدي إلى مشاعر واتجاهات النقص وهذا مرتبط بالهجرة غير الشرعية عند الأفراد وبالتالي
يحفز الفرد نحو المغامرة وعدم الاهتمام باحتمالات الضرر التي يمكن أن تلحق به، وهذا بدوره يتعلق بالمستوى الأخير من ترتيب “ماسلو” للحاجات وهو حاجات تحقيق الذات وهي رغبة الشخص في أن يمتلك كل شيء، ولكن بالنظر للواقع نجد أنه في غالب الأحيان هناك فرص معدومة لتحقيق هذه الحاجات، وهذا ما ينعكس في شكل احباطات نفسية التي يمكن أن تتحول إلى دوافع قوية نحو الهجرة غير الشرعية
التفسير الاقتصادي
ينظر أنصار التفسير الاقتصادي إلى العوامل الاقتصادية على أنها المفسر الأساسي لظاهرة الهجرة، فالبعد الاقتصادي يستوجب النظر إلى العوامل الاقتصادية الطاردة في مجتمع الإرسال والعوامل الاقتصادية الجاذبة في مجتمع الاستقبال.
فالتحليل النيوماركسي(الحدي) المبني على المفاضلة بين المزايا والتكاليف وتحقيق المنفعة بأقل الأثمان يرى أن الهجرة تعد استثمارا قادرا على إحداث فائض صافي ايجابي عن طريق الفرق بين المتحصل عليه في البلد الأصلي والدخل المتوقع الحصول عليه في بلد مضيف مع احتساب وطرح نفقات النقل والتنقل
فحسب هذا التحليل فإن الفوارق في الأجور هي التي تدفع المهاجرين إلى الانتقال من المناطق ذات الأجور المتدنية نحو المناطق ذات الأجور المرتفعة وذلك بهدف زيادة الدخل وتحسن مستوى المعيشة.
كما تطرقت عدة نظريات اخرى الى الهجرة في سعي الى تفسير هذه الظاهرة وفهم تعقيداتها وابعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وربطها بجملة المتغيرات المتداخلة والرتبطة بفعل الحرقة كفعل قد يبدو ارادي اختياري لكن تحكمه جملة من المحددات والموجهات الذاتية والموضوعية.
ولا يمكن فصل قرار الهجرة غير النظامية عن الوضع السياسي العام وبيئة العيش والابعاد التنموية من جهة والثقافية والاقتصادية من جهة ثانية للافراد والمجموعات ومد قدرتها على التأقلم والمقاومة او مدى قدرتها على الهجرة المنظمة من منظور قانوني.
وهذا الموضوع، رغم الدراسات والابحاث وما كتب عنه، فانه ما يزال مجالا خصبا لدراسة هذا الفعل الاجتماعي بين المؤثرات الموجهة للقرار وبين الاثار المترتبة عنه اجتماعيا واقتصاديا وديمغرافيا خاصة في ظل ما تشهده مورفولوجيا المجتمع التونسي من تحولات وطفرات ديموغرافية وثقافية خصوصا الوافدة من افريقيا جنوب الصحراء التي تحمل عدة ابعاد اجتماعية جوهرية في حاجة الى مزيد الدراسة والتعمق في واقعها ومآلاتها..
المراجع
د.سعد الجين مشاور، دشنافي فوزية، تطور مفهوم الهجرة: من ظاهرة سوسيو-اقتصادية الى ظاهرة امنية- قراءة في تحول المفهوم. جامعة وهران 2
عبد الستار السحباني، الشباب والهجرة غير النظامية في تونس دراسـة ميدانية للتمثـات الاجتماعيـة والممارســات والانتظارات، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعي، ديسمبر 2016.
سنية قصير/عبد العلاء بونوح، الهجرة والبيئة في تونس: العلاقات المعقدة والتحديات من اجل التنمية، المنظمة الدزلية للهجرة،2016
منيرة حجلاوي، “فرادى وعائلات.. لماذا تتصاعد هجرة التونسيين”، موقع الجزيرة نت، أوت 2022
إرسال التعليق